لقد جاوز العقد الخامس من عمره حين التقيت به ذات مساء , وبعد الانتهاء من المراسم المعتادة
قال اليوم ساخبرك بقصة جرت لي في احدى الدول المجاورة , حيث كنت ادرس في بداية سبعينات
القرن الماضي , نعم كان الامر يحتاج منا ونحن اطفالا ان نتغرب عن وطننا , ونذهب الى مختلف
بلاد العالم للدراسة , في عام 1976 م وكنت بالصف الثاني الاعدادي حينها , رشحت من قبل
مدرستي والمنطقة التعليمية التي كنت ادرس فيها للسفر الى تونس للمشاركة في احدى الفعاليات
الشبابية العربية , نتيجة لتفوقي وتميزي على اقراني على مستوى المنطقة التعليمية , في الحقيقة
فرحت بزيارتي لتونس التي كنت لا اعرف عنها شيئا الا ما تيسر من معلومات مدرسية , ومعرفتي
ان ابو القاسم الشابي الشاعر العربي من تونس , وكنا نسمع بتونس الخضراء , اخذت الاستعداد
للسفر بعد ان ابلغت ولي امري , الذي قام بالاتصال بوالدي في عمان وشجعه على الموافقة لي
بالسفر .
قرب تاريخ السفر , وفي اليوم المحدد لابلاغي استدعاني مدير المدرسة الذي كان بتلك الفترة يحمل
الجنسية اليمنية ( الاستاذ عبد الرحمن ) الذي نال جنسية تلك الدولة بعد فترة , دخلت على المدير في
مكتبه بعد ان ابلغه المراسل الذي وضع كرسيا على باب مكتب المدير , ابلغته بنداء المدير لي , ولانه
كان على علم ذلك سمح لي بالدخول .
لم اشاهد تلك الملامح المبتسمة التي تعودنا ان نراها على محيا مديرنا , بعد السلام , سألني عن
احوالي , فاجبته , والحقت ببيان استعدادي للسفر ولا سيما ان العام الدراسي قد انتهى , فرد قائلا
اسمع يا ولدي القرار ليس لي , ولكن ترشيحك للسفر الى تونس للمشاركة في الوفد قد رفضته
الوزارة بحجة انك لست من ابناء البلد , صمت ولم ارد فترة من الزمن , ثم استجمعت نفسي وقلت
له عادي بسافر عمان وبرجع لاهلي , ولكن من الذي تم ترشيحه بدلا عني , فقال لي : الطالب
( فلان ) ... صدمت ...وقلت له ...ولكنه ليس من ابناء البلد انه من فلسطين ؟؟؟.
قال لي نعم ... ولكن هكذا هو الامر . ولا تزعل , سافر الى عمان والتقي باهلك وتمتع بالاجازة
واريد ان اراك كما عرفتك مجتهدا متميزا كعادتك .
قلت له بالحرف : بلدي اولى بي .. اعطني نقل الى عمان .. هناك لن يقول احد انك لست مواطن .
سكت .. ثم قال :... ولكن ؟؟؟
لا وجود لكلمة لكن هنا يا استاذ , اعطيتني النقل او لا ..فانا لن اعود وساظل بعمان .
انهيت اجراءات نقلي وخرجت وهو يسايرني ويتمنى لي التوفيق في مستقبلي , نعم كلمة حق تقال
عن ذلك الرجل .. افقني حتى باب المبنى ... وعند الباب ... قالها كلمة : عرفت اليوم منك يا ولدي
معنى اسم عمان في قلوبكم .
رجعت الى البلد وفي بداية العام الجديد , انتظمت في مدرسة بولايتي , واستمر العام , حتى قبل نهايته
وكانت السلطنة تستعد للاشتراك في لقاء دولي شبابي في ايران عام 1977 م , وكنت من المرشحين
للسفر في الوفد , وسافرت ... ومن الصدف اني التقيت بعدد من زملائي في مدرستي السابقة في
تلك الدولة .. احدهم قال معلقا : سبحان الله تتركنا هناك لتلتقينا هنا .
قلت وبكل فخر : بلدي عرفت قيمتي ... فجئت لالتقيكم هنا .
رد قائلا : يا اخوي .. انت احسن منا .. بلادكم بايديكم ...وبلادنا بايدي غيرنا .
وما كاد ينتهي حتى التفت جانبا ليسمح دمعة جرت من عينه .
تجاوزتها ولم اعلق ... ولكن عرفت من حكايته قيمة الوطن .